لم يعرف تاريخ مصر شيخاً زلزل عروش الحكام ،و أعزّ الله به الاسلام،
مثل الفقيه الربّانى ، سلطان العلماء ، و بائع الملوك ، العزّ بن عبد السلام.
كان فى طفولته فقيراً . و لعل هذا كان سبباً فى تأخره عن أقرانه فى طلب العلم..و رغم أنه بدأ فى تلقى العلوم الشرعية فى سن متأخر نوعاً ما ، الا أن ما وهبه الله من ذكاء وقّاد عوّضه عن هذا.. و فى خلال بضع سنين سبق كل مُعاصريه.
و تتلمذ على أيدى فطاحل علماء عصره ،و منهم المُحدّث و المؤرخ الشهير أبو القاسم بن عساكر ، و الفقيه العظيم الآمدى و غيرهما رضى الله عن الجميع. و بلغ من نبوغه أنه كان لا يكاد يبلغ نصف كتاب أحد هؤلاء الأكابر ،حتى
يقول له شيخه ،كما يروى هو : (ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أُكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك. ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أدرس عليه في ذلك العلم )
و قد برع رضى الله عنه فى العلوم اللغوية أيضاً.و لم يكتف بطلب العلم فى مسقط رأسه (دمشق) بل رحل كذلك
الى (بغداد) و نهل من علوم كبار مشايخها.و بعد عودته الى الشام تولى الخطابة و التدريس فى أكبر مساجدها،
و هو المسجد الأموى الكبير..و لكن سرعان ما بدأ الصدام بينه و بين الحكّام ..
فقد أنكر على الملك الصالح اسماعيل
موالاته للصليبيين ضد أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر، فى صراعهما المحموم على السُلطة. و كان الخائن اسماعيل قد أعطى الصليبيين أجزاء كبيرة من الشام ، و سمح لهم بالحصول على المؤن و السلاح من أسواق دمشق، مقابل مساعدتهم له ضد مصر.. و بلغ الأمر مسامع العزّ فصعد يوم الجمعة الى منبر المسجد الأموى ، وخطب في الناس خطبة نارية، أفتى فيها بحُرمة بيع السلاح للفرنجة، وحُرمة الصلح معهم.. وقال في آخر خطبته «اللهم أبرم أمر رشد لهذه الأمة، يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذلّ فيه أهل معصيتك»، ثم نزل من المنبر دون الدّعاء للحاكم الصالح إسماعيل على عادة الخطباء فى عصره.
و جُنّ جنون الملك الخائن ، فأمر بالقبض على الشيخ الجليل و ايداعه السجن..و ما أن ذاع خبر اعتقال العزّ بن عبد السلام
حتى هاج الناس ، و استبد الرُعب باسماعيل ،خشية اندلاع ثورة هائلة تقتلعه من جذوره ، فأمر باخلاء سبيل العزّ ،مع منعه من الخطابة فى جميع المساجد..و رأى الشيخ رضى الله عنه أن مصلحة الدعوة تقتضى انتقاله الى مصر ، حتى يواصل الخطابة و الافتاء و تدريس العلوم ، بدلاً من الحصار الخانق المضروب عليه فى دمشق.. و رحبّ به ملك مصر نجم الدين أيوب ، و ولّاه الخطابة و القضاء بالقاهرة..و لم يلبث الشيخ المُجاهد طويلاً حتى عاد الى الصدام مع السُلطة ، اذ أفتى بعدم جواز ابرام عقود البيع و الشراء مع المماليك ، الذين كانت لهم شوكة و سطوة فى تلك الفترة..و شكوه الى الملك ،فاستدعاه نجم الدين أيوب ، و طلب منه العدول عن فتواه ، فرفض العزّ بكل قوة العدول عن رأيه الفقهى،و نَهَرَ الملك ،
و طلب منه عدم التدخّل فى شئون الافتاء و القضاء ، لأن هذا ليس من سُلطة الملوك ، و انما هو دور العلماء وحدهم.
و احتجاجاً على موقف نجم الدين أيوب ، حمل العالم الجليل الزاهد ملابسه القليلة و كُتُبه على حمار ، و خرج يريد الرحيل عن مصر .. و تجمّع حوله الألوف من الصالحين و الوجهاء للرحيل معه.. و بلغ الخبر الملك ، فجاء مُسرعاً الى الشيخ ، و قبّل رأسه ، و رجاه أن يبقى وأن يحكم بما يراه مُطابقاً للشرع ،بدون تدخل من أحد.و بالفعل طلب العزّ عقد مجلس لبيع الأمراء المماليك ،و ايداع الثمن بيت مال المسلمين !!! و عندما خاف عليه ابنه من بطشهم ، و نصحه بالعدول عن موقفه، نهره الشيخ و قال له : (أبوك ليس أقل من أن يُقتل فى سبيل الله)..و لهذه الموقف سمّاه المؤرخون أيضاً ب (بائع الملوك) فضلاً عن لقبه الشهير (سلطان العلماء).
و بعد موت الصالح أيوب أثناء الحرب مع الصليبيين (حملة لويس التاسع) كان للشيخ دورعظيم فى الحرب ، و خاصة فى توجيه الرأى العام ، و الحث على الجهاد ضدهم ..
و انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للصليبيين، و أسر لويس التاسع و كبار وزرائه و قادة جيشه فى المنصورة كما هو معلوم. و بعد انتهاء القتال ، لم يسكت العالم الجليل ، فأفتى بعدم جواز تولى شجرة الدُرّ رئاسة الدولة ، و اضطرت الى التنازل عن الحكم استجابة لفتواه، و الزواج من الأمير عز الدين أيبك و نقل السُلطة اليه..
و فى عهد سيف الدين قطز تحركّت جحافل التتار فاجتاحت العراق و الشام ، و استعدت للهجوم على مصر..و لعب الأسد بن عبد السلام دوراً رئيسياً تاريخياً فى المقاومة و التعبئة العامة ..و كان له هنا أيضاً موقف مشهود .
فقد استبد الرعب بالناس بسبب المذابح الرهيبة التى ارتكبها التتار فى كل مكان نزلوا به ..و استشار السلطان قطز الشيخ العزّ بن عبد السلام فى البقاء بمصر مع تحصينها ، فلم يوافق الشيخ العبقرى على اتخاذ موقف دفاعى ضعيف ، لأن خير و سيلة للدفاع هى الهجوم ..و خطب العزّ و تلاميذه فى كل مساجد مصر لتشجيع العامة ، و رفع الروح المعنوية ، و الحض على الجهاد ، فاما نصر و اما استشهاد .. و قال للناس:
(اخرجوا لملاقاتهم بالشام ، وأنا أضمنُ لكم على الله النَّصر).. و كذلك نهى العالم الجليل السلطان قطز عن فرض ضرائب على التُجّار ، لتجهيز الجيش..و أمره باعادة ما لديه و لدى كل الأمراء المماليك من الأموال و المجوهرات الى بيت المال أولاً ، فان لم تكن كافية ، فليتبرع الناس ،كُلّ بما يقدر عليه دون ارهاق للفقراء ..و نزل السلطان على رأى العالم الربّانى ، و بدأ بنفسه ، فأودع كل المجوهرات و التحف التى يمتلكها و زوجته بيت المال ، و تبعه باقى الأمراء ..و كان هذا العدل ، و جهود العالم الربانى من أسباب النصر الساحق
الذى تحقّق للمسلمين على التتار فى موقعة (عين جالوت ) التى كسرت شوكة التتار ، و أنقذت المنطقة العربية بأسرها منهم..
و استمر العزّ بن عبد السلام ،بعد ذلك، فى الافتاء و القضاء و نشر العلم .. و كان رضى الله عنه من بحار المعارف، و له عشرات من المؤلفات الخالدة ، فى العقيدة و التفسير و الفقه و الحديث والسيرة النبوية و غيرها.. و ما تعلّمته البشرية من سيرته العطرة و جهاده العظيم أكثر ..
و بعد تلك الحياة الحافلة ، لقى العلّامة المُجاهد ربه فى عهد الملك الظاهر بيبرس..
و يكفى دليلاً على علو منزلته و قدره الرفيع و خوف الحُكّام منه ، أن الظاهر بيبرس حضر جنازته بنفسه ، ووقف على قبره قائلاً لمن حوله : ( اليوم فقط استقر مُلْكى )!!!!
رضى الله عن بائع الملوك و سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام و أرضاه.